إعلان نيويورك- حل الدولتين، تنازلات فلسطينية، وتعميق الانقسام؟

المؤلف: د. محسن محمد صالح08.21.2025
إعلان نيويورك- حل الدولتين، تنازلات فلسطينية، وتعميق الانقسام؟

في خضم الجهود المضنية لإحياء المسار العالمي نحو تسوية سلمية للقضية الفلسطينية وتحقيق حل الدولتين، بالتزامن مع السعي الدؤوب لوقف العدوان الغاشم على قطاع غزة، يبرز "إعلان نيويورك" كبصيص أمل، لكنه في الوقت ذاته يثير جملة من الشكوك العميقة حول إمكانية تطبيقه الفعلي على أرض الواقع وتجاوز المعوقات والعراقيل التي لطالما عرقلت هذا المسار على مدار العقود الثلاثة الماضية منذ اتفاق أوسلو.

وبالقدر الذي يهدف إليه الإعلان من حشد أوسع نطاق من الدعم الدولي لهذا المشروع، فإنه يقدم تنازلات يرى فيها الفلسطينيون تضحية غير مبررة بحق المقاومة ودورها الجوهري في الشراكة الفعالة في صنع القرار الفلسطيني بعيداً عن أي قوالب أو إملاءات خارجية.

ففي إطار فعاليات المؤتمر الدولي الرفيع المستوى، الذي انعقد تحت مظلة الأمم المتحدة في الفترة ما بين 28 و30 يوليو/تموز 2025، وبمشاركة رفيعة المستوى من 17 دولة، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية، تمخض عن ذلك "إعلان نيويورك" الذي تشكلت ثمانية فرق عمل متخصصة مهمتها بلورة الأفكار ومشاريع القرارات المتعلقة بحل الدولتين سياسياً واقتصادياً وأمنياً ومالياً.

وعلى هامش فعاليات المؤتمر، أعلن وزير الخارجية الفرنسي عن عزم 15 دولة أوروبية الاعتراف رسمياً بدولة فلسطين، موجهاً نداءً حاراً إلى الدول التي لم تحذُ حذوها للانضمام إلى هذا الاعتراف. ومن بين هذه الدول، أبدت تسع دول لم تعترف بعد، استعدادها أو اهتمامها الجاد بالاعتراف.

مؤشرات إيجابية

يحمل الإعلان بين طياته عدداً من المؤشرات الإيجابية التي تستحق التوقف عندها، وأبرزها:

  1. حشد مسار دولي قوي وفاعل للدفع بقوة نحو حل الدولتين، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على أساس خطوط الهدنة التي كانت قائمة قبل حرب يونيو/حزيران 1967. وبغض النظر عن رؤيتي الشخصية لحل الدولتين، فإن هذا التحرك الدولي قد يسهم بشكل كبير في تصعيد الضغوط على الاحتلال الإسرائيلي الذي تجاوز هذا الحل، وانصرف بشكل شبه كامل إلى شطب القضية الفلسطينية من الأجندة الدولية، وفرض خطة "الحسم" بضم ما تبقى من الأراضي الفلسطينية المحتلة وتهويدها، وتبني فكرة "السلام مقابل السلام" أو "السلام بالقوة"!
  2. انضمام كتلة وازنة من الدول الأوروبية والحلفاء التقليديين الداعمين للاحتلال الإسرائيلي لأول مرة للاعتراف بدولة فلسطين ودعم وإنفاذ حل الدولتين، وعلى رأسهم فرنسا، والمملكة المتحدة، وألمانيا، وكندا، وأستراليا…؛ وهو ما يفرض مزيداً من العزلة الدولية والضغوط المتزايدة على الكيان الإسرائيلي.
  3. رفض العدوان الإسرائيلي السافر على غزة، وإدانة الاعتداءات الوحشية على المدنيين الأبرياء، والمطالبة بوقف إطلاق النار فوراً، وإدخال المساعدات الإنسانية العاجلة، ورفض التهجير القسري، وإنهاء التجويع، والمطالبة بإعادة الإعمار الشامل واستئناف تقديم الخدمات الأساسية كالكهرباء والماء والوقود، مع التأكيد على الدور المحوري لوكالة الأونروا؛ وهو ما يعني إفشال جزء كبير من المخطط الإسرائيلي التوسعي في القطاع.
  4. إبداء نوع من الجدية في إنفاذ حل الدولتين، من خلال إنشاء لجان عمل متخصصة تعالج التفصيلات السياسية والاقتصادية والأمنية والمالية، والسعي لوضع جدول زمني محدد المعالم للوصول إلى اتفاق نهائي إسرائيلي فلسطيني. والتأكيد على عدم المساس بوضع القدس، ودعم الوصاية الهاشمية، والتأكيد على أن غزة جزء لا يتجزأ من الدولة الفلسطينية، وتعزيز الاقتصاد الفلسطيني، ومطالبة الاحتلال الإسرائيلي بالإفراج الفوري عن عائدات الضرائب المحتجزة.

إلا أن الملاحظة الرئيسية على هذه المؤشرات الإيجابية أنها لم تحمل جديداً يذكر في الموقف الذي تعبر عنه معظم دول العالم تجاه القضية الفلسطينية منذ عقود طويلة؛ وهي لخصت بشكل عام مئات القرارات التي صدرت عن الأمم المتحدة بأغلبية ساحقة على مدار الخمسة والخمسين عاماً الماضية؛ وإن كانت حاولت استرداد روح المبادرة في وجه الأمر الواقع الذي يفرضه الإسرائيليون.

وقد سبق للمنظومة الدولية الداعمة لمسار التسوية أن شكلت مجموعات عمل سياسية واقتصادية وأمنية ومتعلقة باللاجئين بعد اتفاق أوسلو، ولكنها لم تحقق أي نتائج ملموسة. كما سبق تبني "خريطة طريق" لإنشاء دولة فلسطينية مستقلة سنة 2003 خلال فترة زمنية محددة بسنتين، ولكنها انتهت بالفشل الذريع بالرغم من الرعاية الأميركية الحثيثة لتلك الخطة.

ويبدو أن عدداً من الدول الصديقة لـ "إسرائيل" أرادت أن تنقذ "إسرائيل" من نفسها، بعد أن أدركت أن السلوك والممارسات المتعجرفة والمتطرفة لحكومة الكيان ستتسبب بإشعال نار الغضب والتفجير في المنطقة، وبالتالي سترتد بشكل خطير على بقاء الكيان نفسه.

هل هو مسار مصمم للفشل؟

للأسف، يوفر لنا "إعلان نيويورك" مرة أخرى "سيارة من دون عجلات"؛ ويتجنب بشكل واضح التعامل المباشر مع جوهر المشكلة الحقيقي الذي عطل اتفاقات أوسلو ومسار التسوية برمتها.

فبعد مرور ما يقارب 32 عاماً، ثمة إجماع شبه كامل بين دول العالم على أن الاحتلال الإسرائيلي هو الذي عطل الاتفاقات، وتعامل مع مسار التسوية كغطاء لمزيد من التهويد والاستيطان وفرض الحقائق على الأرض، وجعل حل الدولتين أمراً مستحيلاً. كما جعل الكيان نفسه "دولة فوق القانون"، مستفيداً من الغطاء والدعم الأميركي غير المحدود.

وإعلان نيويورك هذا لا يوفر أي آليات جادة ولا أي ضمانات حقيقية لفرض إرادة المجتمع الدولي وقراراته (التي تجاوز عددها 950 قراراً) بشكل فعال على الكيان الإسرائيلي.

وتندرج كل الطلبات المتعلقة بالجانب الإسرائيلي في إطار الرغبات والدعوات والتمنيات. وليس ثمة عقوبات حقيقية ولا تلويح بعقوبات رادعة لإجباره على الانصياع.

وبناءً على ذلك، سيكون إعلان نيويورك مجرد إعادة تسويق لمسار أوسلو العقيم، وإعادة إنتاج للفشل. وهذا سيوفر المزيد من الوقت للاحتلال لمتابعة برامج التهويد، بينما سيتم متابعة الجانب الفلسطيني وفق آليات عمل دقيقة ومحددة تصب في المصلحة الإسرائيلية، وتتابع الدور الوظيفي للسلطة الفلسطينية في خدمة الاحتلال.

إدانة حماس ونزع سلاح المقاومة

للمرة الأولى، تدين دول عربية وإسلامية في وثيقة رسمية عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول وتتهمها باستهداف المدنيين، مستجيبة للرواية الإسرائيلية التي نفتها حماس بشكل قاطع؛ بينما ترى الأغلبية الفلسطينية والعربية والإسلامية أن العملية في جوهرها عملاً مشروعاً، ومنجزاً غير مسبوق. وهذا يعد تطوراً خطيراً إذ رفضت هذه الدول قبل ذلك أي إدانة دولية لهذه العملية.

أما الجانب الأخطر في الموضوع برمته، فهو مطالبة حركة حماس بنزع أسلحتها وتسليمها للسلطة الفلسطينية، وهو في جوهره تحقيق لهدف إسرائيلي استراتيجي من الحرب العدوانية على غزة. وهو إجراء يتم من طرف واحد، ويوفر عملياً الحرية المطلقة للاحتلال الإسرائيلي في الاستمرار والاستقرار، ومتابعة برامج التهويد والاستيطان دونما مقاومة، وبالتالي، متابعة شطب القضية الفلسطينية، كما يحدث في القدس والضفة الغربية، وفي بيئة عربية ودولية تعترف صراحة بأنها عاجزة تماماً عن إلزام الاحتلال الإسرائيلي بأي شيء.

وهكذا، فبدلاً من مساعدة الطرف الفلسطيني على حماية نفسه كضحية تحت الاحتلال الغاشم، يتم مكافأة المعتدي المحتل الذي ارتكب آلاف المجازر وتسهيل مهمته، بينما لا توجد أي بنود حول نزع أسلحة الاحتلال الإسرائيلي أو فرض حظر دولي عليه.

إخراج حماس من المشهد السياسي وتعميق الانقسام

يقدم إعلان نيويورك رؤية كارثية تسهم في تأزيم الوضع الداخلي الفلسطيني بدلاً من تعزيزه، فهو يشترط لإجراء الانتخابات الفلسطينية في الضفة والقطاع أن يشترك فيها فقط الفلسطينيون الملتزمون بمسار أوسلو وبالالتزامات التي التزمت بها قيادة منظمة التحرير.

وهذا يعني عملياً إخراج حماس والجهاد الإسلامي وقوى المقاومة الرافضة لاتفاقات أوسلو من العملية الانتخابية برمتها، وصياغة "شرعية فلسطينية مصطنعة"؛ في الوقت الذي تشير فيه كل استطلاعات الرأي العام إلى أن قوى المقاومة تتفوق شعبياً على القوى المؤيدة لمسار التسوية. ثم إن كل الاتفاقات الفلسطينية طوال العشرين سنة الماضية تؤكد على الشراكة الكاملة لكل القوى الفلسطينية في انتخابات السلطة والمجلس الوطني الفلسطيني وإعادة بناء منظمة التحرير.

ويأتي هذا الطرح متوافقاً تماماً مع الاشتراطات الإسرائيلية الأميركية والرباعية الدولية التي أثبتت فشلها الذريع على أرض الواقع، كما يأتي متوافقاً مع أطروحات محمود عباس وقيادة فتح التي تدرك تماماً عجزها عن أي منافسة انتخابية ديمقراطية شفافة مع حماس وقوى المقاومة.

ويضع أحد البنود مزيداً من الملح على الجرح الغائر، فيتحدث عن اعتماد تدابير محددة ضد الكيانات والأفراد الذين يعملون ضد مبدأ التسوية السلمية للقضية الفلسطينية.

وبالطبع، فلن تُتخذ هذه الإجراءات ضد الأحزاب الإسرائيلية الحاكمة التي عملت طوال العقود الماضية على إفشال هذا المسار وإسقاطه، وإنما سيتم ملاحقة قوى المقاومة الفلسطينية التي تمارس حقها الطبيعي والشرعي في المقاومة وتحرير أرضها من الاحتلال الإسرائيلي.

دولة فلسطينية منزوعة السلاح

يقدم إعلان نيويورك تنازلاً خطيراً في بنية الدولة الفلسطينية المستقلة، ويتحدث عن دولة بلا جيش أو منزوعة السلاح. وبدلاً من توفير الضمانات اللازمة لهذه الدولة الوليدة لحماية نفسها من الاحتلال والعدوان والاستعمار الإسرائيلي؛ فإنه يُقدم الضمانات والطمأنينة للقوة المحتلة المستعمرة التي تمارس المجازر ومصادرة الأراضي والمقدسات بشكل ممنهج؛ ويوفر لها أدوات الإغراء لمتابعة تغولها وفرض هيمنتها وإعادة الاحتلال متى أرادت، ووفق أي تفسيرات مصلحية تراها مناسبة.

إدماج الكيان الإسرائيلي في المنطقة

يسعى إعلان نيويورك لمكافأة الاحتلال الإسرائيلي من خلال برنامج تطبيعي واسع النطاق يؤدي إلى "إدماجه" بشكل كامل في المنطقة. ويتجاوز الحديث عن محاسبة الاحتلال على جرائمه المروعة، وعن عدوانه المستمر على لبنان وسوريا، والتهديدات المستمرة لإيران، ومحاولة فرض هيمنته الأمنية والعسكرية على المنطقة بأكملها.

وأخيراً، يجب على المجتمع الدولي أن يكف عن سياسة طمأنة المجرم المحتل وتقديم الحوافز المغرية له، ومعاقبة الضحية ومطالبتها بالمزيد من التنازلات والضمانات.

كما أن عليه أن يكف عن فرض رؤيته الفوقية وإرادته لمواصفات الشرعية والقيادة الفلسطينية، فالشعب الفلسطيني لديه الوعي والنضج الكافيان لاختيار قيادته بنفسه وصناعة قراره المستقل.

وإذا كان المجتمع الدولي جاداً بالفعل في دعم إنشاء الدولة الفلسطينية على الأرض المحتلة سنة 1967، فجوهر جهده يجب أن يتوجه لإجبار الاحتلال على الانسحاب الكامل، وليس لإخضاع الشعب الفلسطيني المظلوم لمعايير الاحتلال، ولا بمكافأة الاحتلال بمزيد من التطبيع وتوفير عناصر الاستقرار والازدهار له، حتى قبل أن يقوم بانسحابه.

ويظل إعلان نيويورك مجرد حلقة ضمن سلسلة طويلة من المشاريع التي تتهرب من التعامل الجدي مع جوهر المشكلة، ألا وهو إيجاد آليات قادرة على إلزام الاحتلال بالانسحاب الفوري وإنفاذ القرارات الدولية ذات الصلة… وبالتالي، فإنه سيعيد إنتاج الوهم والفشل.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة